فصل: الخميس حادي عشرون محرم سنة سبع وخمسين وثمانمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


ثم في يوم السبت ثامن عشره برز أمير حاج المحمل الأمير سونجبغا اليونسي بالمحمل إلى بركة الحاج‏.‏

ثم في يوم الثلاثاء سابع عشرين ذي القعدة أنعم السلطان على الأمير تنبك البردبكي المعزول عن حجوبية الحجاب قبل تاريخه بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية بعد موت الشهابي أحمد بن علي بن إينال اليوسفي‏.‏

ثم في يوم الخميس سادس ذي الحجة من سنة خمس وخمسين المذكورة قدم الأمير أسنباي الجمالي الظاهري أحد أمراء العشرات من بلاد الروم‏.‏

ثم في يوم الثلاثاء حادي عشر ذي الحجة استقر عمر الكردي أحد أجناد الحلقة في أستادارية السلطان بدمشق واستقر شخص يسمى يونس الدمشقي يعرف بابن دكدوك في أستادارية السلطان الكبرى بدمشق وعمر المذكور ويونس هذا هما من الأوباش الأطراف وكلاهما ولي بالبذل‏.‏

ثم في يوم الخميس سابع عشرين ذي الحجة وصل الأمير يشبك الفقيه من صفد بعد ما قلد نائبها الأمير بيغوت‏.‏

ثم في يوم الاثنين أول محرم سنة ست وخمسين وثمانمائة أعيد القاضي جمال الدين يوسف الباعوني إلى قضاء دمشق بعد عزل السراج الحمصي بسفارة عظيم الدولة ناظر الخواص‏.‏

ثم في يوم الثلاثاء ثالث عشرينه وصل أمير حاج المحمل بالمحمل‏.‏

وفيه مسافر الأمير جانبك الظاهري نائب جدة إلى البندر المذكور‏.‏

ثم في يوم الاثنين سادس صفر استعفى الأمير ألطنبغا الظاهري برقوق اللفاف أحد مقدمي الألوف من الإمرة فأعفي لطول مرضه وعجزه عن الحركة وأنعم السلطان بإقطاعه على ولده المقام الفخري عثمان زيادة على ما بيده من تقدمة أخيه الناصري محمد قبل تاريخه فصار بيده تقدمة أخيه وهذه التقدمة‏.‏

ثم في يوم الجمعة ثاني شهر ربيع الأول حضر المقام الفخري عثمان صلاة الجمعة عند أبيه بجامع القلعة ورسم له والده السلطان أن يمشي الخدمة على عادة أولاد الملوك‏.‏

ثم في يوم الخميس ثامن شهر ربيع الأول المذكور خلع السلطان على القاضي محب الدين محمد بن الأشقر ناظر الجيش باستقراره كاتب السر الشريف عوضًا عن القاضي كمال الدين بن البارزي بعد موته‏.‏

وخلع السلطان أيضًا على المقر الجمالي ناظر الخواص باستقراره ناظر الجيوش المنصورة زيادة على ما بيده من نظر الخاص وغيره‏.‏

ثم في يوم السبت سابع عشره نودي بالقاهرة على الذهب الظاهري الأشرفي كل دينار بمائتي درهم وخمسة وثمانين درهمًا وهدد من زاد في صرفه على ذلك‏.‏

ثم في يوم الاثنين ثالث شهر ربيع الآخر استقر الشريف معز في إمرة الينبوع عوضًا عن عمه سنقر بن وبير‏.‏

وفيه نقل يشبك الصوفي المؤيدي المعزول عن نيابة طرابلس من ثغر دمياط إلى القدس بطالًا‏.‏

ثم في يوم السبت ثامن عشرين جمادى الأولى أنعم السلطان على مملوكه جانم الساقي الظاهري بإمرة عشرة بعد موت الأمير برسباي الساقي المؤيدي‏.‏

ثم في يوم السبت حادي عشر شهر رجب وصل إلى القاهرة الأمير حاج إينال اليشبكي نائب الكرك وخلع السلطان عليه باستمراره‏.‏

ثم في يوم السبت ثامن عشر رجب المذكور أنعم السلطان على حاج إينال المذكور بإمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق عوضًا عن الأمير مازي الظاهري برقوق بحكم لزومه بيته واستقر في نيابة الكرك عوضًا عن حاج إينال طوغان مملوك آقبردي المنقار نقل إليها من دوادارية السلطان بدمشق واستقر في دوادارية السلطان بدمشق خشكلمي الزيني عبد الرحمن بن الكويز الدوادار واستقر عوضًا عن خشكلدي في الدوادارية الثالثة شخص من أولاد الناس ممن كان في خدمة الملك الظاهر قديمًا يعرف بابن جانبك لا يعرف له نسب ولا حسب‏.‏

وفي هذه الأيام أشيع بالقاهرة بمجيء النحاس إلى الديار المصرية وأنه وصل على النجب وأنه نزل بتربة الأمير طيبغا الطويل بالصحراء خارج القاهرة ثم انتقل منها إلى القاهرة‏.‏

وتحدث الناس برؤيته وتعجب الناس من ذلك واستغربت أنا وغيري مجيئه من أن السلطان من يوم نكبه وصادره وحبسه ثم نفاه إلى طرسوس ثم حبسه بقلعة طرسوس على أقبح وجه وصار في الحبس المذكور في غاية الضيق ونال أعداؤه منه فوق الغرض وصار السلطان يتفقده في كل قليل بعصيات حتى إنه ضرب في مدة حبسه بطرسوس على نفذات متفرقة نحو الألف عصاة تخمينًا ولم يزل في محبسه في أسوأ حال حتى أشيع مجيئه ولم يدر بذلك أحد من أعيان الدولة ولا يعرف أحد كيفية الإفراج عنه وأخذ أعيان الدولة من الأكابر في تكذيب هذا الخبر وصار الناس في أمره على قسمين‏:‏ ما بين مصدق ومكذب‏.‏

ثم قدم الأمير جانبك الظاهري نائب جدة وصحبته قصاد الحبشة من المسلمين من صاحب جبرت في يوم الخميس ثامن شعبان وعمل السلطان الموكب بالحوش السلطاني وكان السلطان قد انقطع عن حضور الخدمة بالقصر نحو الشهر لضعف حركته‏.‏

فلما كان يوم الجمعة تاسعه طلع أبو الخير النحاس في بكرته إلى القلعة ودخل إلى الدهيشة صحبة المعزي عبد العزيز ابن أخي الخليفة القائم بأمر الله حمزة وقد أمره عمه القائم بأمر الله حمزة ليشفع في أبي الخير المذكور على لسان الخليفة ولم يكن عند السلطان في ذلك الوقت من أعيان الدولة سوى الأمير تمربغا الظاهري الدوادار الثاني والأمير أسنباي الجمالي الظاهري فقام السلطان لابن أخي الخليفة المذكور وأجلسه ثم دخل أبو الخير النحاس وقبل رجل السلطان فسبه السلطان ولعنه وأخذ في توبيخه وذكر أفعاله القبيحة ثم أمر بحبسه بالبرج من قلعة الجبل ثم اعتذر لابن أخي الخليفة وقال‏:‏ ‏"‏ أنا كنت أريد توسيطه ولأجل الخليفة قد عفوت عنه ‏"‏‏.‏

ثم أنعم على عبد العزيز المذكور بمائة دينار وانفض المجلس‏.‏

وأصبح السلطان من الغد في يوم السبت جلس على الدكة بالحوش السلطاني وأحضر أبا الخير المذكور في الملأ من الناس ثم أمر به فضرب بين يديه نحو الألف عصاة أو ما دونها تخمينًا على رجليه وسائر بدنه ثم أمر بحبسه ثانيًا بالبرج من القلعة فتحير الناس من هذه الأفعال المتناقضة وهو كونه أفرج عنه سرًا وأحضره إلى القاهرة فظن كل أحد بعود المذكور إلى أعظم ما كان عليه ثم وقع له ما ذكرناه من الإخراق والضرب والحبس‏.‏

وقد كثر كلام الناس في ذلك فمنهم من يقول‏:‏ أمر السلطان بإطلاقه لا مجيئه إلى القاهرة فلما قدم بغير دستور غضب السلطان عليه فرد على قائل هذا الكلام بأنه‏:‏ من أين لأبي الخير النجب التي قدم عليها مع ما كان عليه لولا توصية السلطان لمن يعينه على ذلك‏.‏

وأيضًا‏:‏ كيف تمكن من المجيء لولا ما معه من المراسيم ما يدفع به نواب البلاد الشامية من منعه من الحضور‏.‏

ومنهم من يقول‏:‏ كان أمره قد انبرم مع السلطان ورسم بحضوره وإنما أعداؤه اجتهدوا في إبعاده ثانيًا ووعدوا بأوعاد كثيرة أضعاف ما وعده أبو الخير المذكور وأقوال كثيرة أخر‏.‏

‏.‏

ثم في هذا اليوم أخذ أبو عبد الله التريكي المغربي المالكي المعزول عن قضاء دمشق قبل تاريخه من بيته إلى بيت الوالي ورسم عليه ثم ادعي عليه بمجلس القاضي المالكي أنه التزم للسلطان عن أبي الخير النحاس بمائة ألف دينار أو أكثر فقال‏:‏ ‏"‏ أنا قلت‏:‏ إن ولاه ما عينته من الوظائف ولم يقع ذلك ‏"‏ وعرف كيف أجاب فإنه كان من الفضلاء العلماء فاستمر في الترسيم إلى يوم الثلاثاء ثالث عشر شعبان فطلب إلى القلعة فطلع وفي رقبته جنزير ثم أعيد إلى الترسيم من غير جنزير وقد أشيع أنه وقع في حق قاضي القضاة شرف الدين يحيى المناوي بأمور شنعة ودام في الترسيم إلى ما يأتي ذكره‏.‏

ثم في يوم الأربعاء رابع عشر شعبان المذكور أخرج أبو الخير النحاس المذكور من البرج منفيًا إلى البلاد الشامية ورسم بحبسه بقلعة الصبيبة فنزل على حالة غير مرضية وهو أنه أركب على حمار وفي رقبته باشة وجنزير وموكل به جماعة من الجبلية شقوا به شارع القاهرة إلى أن أخرج من باب النصر والمشاعلي ينادي عليه‏:‏ ‏"‏ هذا جزاء من يكذب على الملوك ويأكل مال الأوقاف ‏"‏ ونحو ذلك ورسم السلطان أن يفعل به ذلك في كل بلد يمر بها إلى أن يصل إلى محبسه‏.‏

ثم في يوم الخميس خامس عشره استقر الأمير حاج إينال اليشبكي أحد مقدمي الألوف بدمشق في نيابة حماة عوضًا عن سودون الأبوبكري المؤيدي بحكم عزله وتوجهه على إقطاع حاج إينال المذكور بدمشق‏.‏

ثم في يوم الثلاثاء العشرين من شعبان المذكور جلس السلطان بالحوش وأحضر القضاة ثم أحضر والي القاهرة أبا عبد الله التريكي المغربي - وكان التريكي قد أقام قبل ذلك ببيت القاضي الشافعي أيامًا - فلما مثل التريكي بين يدي السلطان سأل السلطان قاضي القضاة شرف الدين يحيى المناوي الشافعي عن أمر التريكي وما وجب عليه فقال‏:‏ ‏"‏ ثبت عليه عند نائبي نجم الدين بن نبيه لمولانا السلطان عشرة آلاف دينار ‏"‏ وقام ابن النبيه في الحال وأخبر السلطان بذلك فنهر السلطان القاضي الشافعي عند مقالته عشرة آلاف دينار وقال‏:‏ ‏"‏ ما أسأل إلا عن ما وجب عليه من التعزير‏.‏

إيش العشرة آلاف دينار ‏"‏‏.‏

ولم تحسن مقالة القاضي الشافعي بهذا القول ببال أحد ثم أجاب ابن النبيه بأن قال‏:‏ ‏"‏ أما المال فقد ثبت عندي وأما التعزير فهو إلى القاضي شمس الدين بن خيرة أحد نواب الحكم ‏"‏‏.‏

فقال ابن خيرة‏:‏ ‏"‏ حكمت عليه بتغريبه سنتين وأما التعزير فلمولانا السلطان على ما وقع منه من الأيمان الحانثة ‏"‏‏.‏

فلما سمع السلطان كلام ابن خيرة أمر بالتريكي فطرح على الأرض وضرب ضربًا مبرحًا يزيد على مائتي عصاة وأقيم فتكلم فيه ابن النبيه أيضًا وأحضر محضرًا مكتتبًا عليه بدمشق بواقعة وقعت له في أيام حكمه بدمشق فأمر به السلطان ثانيًا فضرب نحوًا مما ضرب أولًا‏.‏

واختلفت الأقوال في عدة ما ضرب فأكثر ما قيل ستمائة عصاة وأقل ما قيل أربعمائة‏.‏

ثم أنزلوه إلى بيت والي القاهرة فأقام في حبس الرحبة إلى يوم الأربعاء خامس شهر رمضان فأخرج من الحبس وفي رقبته الجنزير ماشيًا إلى بيت الوالي بين القصرين ثم ركب من هناك وأخرج منفيًا في الترسيم إلى المغرب إلى يومنا هذا‏.‏

ثم في يوم السبت ثامن شهر رمضان سافر محب الدين بن الشحنة قاضي قضاة حلب من القاهرة بعدما أقام بها شهرًا وقاسى من الذل والبهدلة أنواعًا ورسم عليه غير مرة وأخرجت عنه وظيفتا كتابة سر حلب ونظر جيشها‏.‏

وقد استوعبنا أحوال ابن الشحنة هذا في تاريخنا ‏"‏ حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور ‏"‏ مستوفاة من مبدأ أمره إلى يوم تاريخه مما وقع له بحلب ومصر وغيرهما من الأمور الشنعة وسوء السيرة وما وقع له من التراسيم عليه وغير ذلك‏.‏

ثم في أواخر هذا الشهر رسم السلطان بإخراج نصف إقطاع جانبك النوروزي المعروف بنائب بعلبك للسيفي بردبك التاجي وكلاهما مقيم بمكة وكان هذا الإقطاع أصله بين جانبك المذكور وبين تغري برمش نائب القلعة فلما نفي تغري برمش أنعم السلطان عليه بنصيبه إلى يوم تاريخه فأخرجه عنه‏.‏

ثم في يوم الخميس رابع شوال استقر الأمير تغري بردي الظاهري المعروف بالقلاوي وزيرًا بالديار المصرية مضافًا لما بيده من كشف الأشمونين والبلاد الجيزية عوضًا عن الصاحب أمين الدين إبراهيم بن الهيصم بحكم استعفائه عن الوزارة‏.‏

وأنعم السلطان على تغري بردي المذكور بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية وهو الإقطاع الذي كان أنعم به السلطان على ولده المقام الفخري عثمان بعد ألطنبغا اللفاف ليستعين تغري بردي المذكور بالإقطاع على كلف الدولة وكانت خلعة تغري بردي المذكور بالوزارة أطلسين متمرًا ثم فوقانيًا بطرز زركش عريض مثال خلعة الأتابكية بالديار المصرية‏.‏

وخلع السلطان على زين الدين فرج أبن ماجد ابن النحال كاتب المماليك السلطانية بوظيفة نظر الدولة مضافًا لكتابة المماليك‏.‏

وفي يوم الاثنين تاسعه عملت الخدمة السلطانية بالدهيشة من الحوش ورسم السلطان بأن تكون الخدمة دائمًا في يومي الاثنين والخميس بها كل ذلك لضعف حركة السلطان وهو يكتم ما به من الألم‏.‏

وفي يوم الثلاثاء عاشره استقر قاني باي طاز السيفي بكتمر جلق في نيابة قلعة صفد بعد شغورها أشهرًا من يوم مات الجمالي يوسف بن يغمور‏.‏

وفي هذا اليوم أيضًا وصل المقام الغرسي خليل ابن الملك الناصر فرج ابن الملك الظاهر برقوق من ثغر الإسكندرية وقد رسم له بالتوجه إلى الحجاز لقضاء الفرض وطلع إلى السلطان فأكرمه السلطان إلى الغاية وهذا شيء لم يسمع بمثله من أن ابن السلطان وله شوكة يمكن من سفر الحجاز فلله دره من ملك‏.‏

وقد حكينا طلوعه إلى القلعة واجتماعه بالسلطان في ذهابه وإيابه في ‏"‏ الحوادث ‏"‏ بأطول من هذا‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثامن عشره ورد الخبر بقتل طوغان السيفي آقبردي المنقار نائب الكرك على ثم في يوم تاسع عشره برز الأمير دولات باي المحمودي الدوادار الكبير أمير حاج المحمل بالمحمل وكان الحاج في هذه السنة ركبًا واحدًا وهذه حجة دولات باي المذكور الثانية أمير الحاج‏.‏

فلما خرج دولات باي إلى بركة الحاج رسم له بأن يجعل دواداره فارس أمير الركب الأول ووقع ذلك‏.‏

وسافر ابن الملك الناصر صحبة المحمل‏.‏

ثم في يوم الثلاثاء رابع عشرين شوال رسم السلطان لطقتمر البارزي رأس نوبة الجمدارية أن يتوجه إلى القدس الشريف لإحضار الأمير يشبك الصوفي المؤيدي منه إلى القاهرة ليتجهز ثم يعود إلى دمشق أتابكًا بها عوضًا عن خير بك المؤيدي الأجرود‏.‏

ورسم السلطان أيضًا لطقتمر المذكور أن يتوجه إلى دمشق ويقبض على أتابكها خيربك المذكور ويحمله إلى سجن الصبيبة‏.‏

وفيه أيضًا رسم بنقل الأمير يشبك طاز المؤيدي من حجوبية طرابلس إلى نيابة الكرك عوضًا عن طوغان المقتول قبل تاريخه‏.‏

واستقر عوضه في حجوبية طرابلس مغلباي البجاسي أحد أمراء طرابلس كان ثم نائب قلعة الروم‏.‏

واستقر في نيابة قلعة الروم ناصر الدين محمد والي الحجر بقلعة حلب‏.‏

ثم في يوم الأحد سادس ذي القعدة من سنة ست وخمسين المقدم ذكرها حبس السلطان تقي الدين عبد الرحمن بن حجي بن عز الدين قاضي قضاة الشافعية بطرابلس بحبس المقشرة فحبس بها بعد أن نودي عليه وهو على حمار بشوارع القاهرة‏:‏ ‏"‏ هذا جزاء من يزور المحاضر‏!‏ ‏"‏‏.‏

ثم أمر السلطان من وقته بحبس ماماي السيفي بيبغا المظفري أحد الدوادارية بالبرج من قلعة الجبل لاتهامه بالغرض مع التقي المذكور وكان ماماي المذكور هو المتوجه إلى طرابلس للكشف عن أحوال ابن عز الدين المقدم ذكره‏.‏

واستمر ماماي بالبرج إلى يوم الاثنين سابع ذي القعدة فأطلق ورسم بنفيه إلى مدينة حماه واستقر في وظيفة ماماي الدوادارية قانصوه الظاهري جقمق‏.‏

ثم في يوم الخميس عاشره وصل الأمير يشبك الصوفي من القدس إلى القاهرة وطلع إلى القلعة وقبل الأرض‏.‏

وفيه رسم بالإفراج عن جانبك المحمودي من حبس المرقب وأن يتوجه إلى طرابلس بطالًا‏.‏

ثم في يوم الاثنين ثامن عشرينه خلع السلطان على الأمير يشبك الصوفي باستقراره أتابك عساكر دمشق وسافر في يوم الخميس ثاني ذي الحجة‏.‏

ثم في يوم الخميس سادس عشر ذي الحجة استقر القاضي حسام الدين محمد بن تقي الدين عبد الرحمن بن بريطع قاضي قضاة الحنفية بحلب عوضًا عن محب الدين ابن الشحنة بعد أن وقع لابن الشحنة المذكور أمور مذكورة في ‏"‏ الحوادث ‏"‏ بتمامها وكمالها‏.‏

وفي يوم الاثنين عشرينه استقر أسنبغا مملوك ابن كلبك نائب القدس وناظره بعد موت أمين وفي يوم الثلاثاء حادي عشرينه تكلم الأمير الوزير تغري بردي القلاوي مع السلطان في عزل فرج ابن النحال عن نظر الدولة فعزله وأبقى معه كتابة المماليك على عادته‏.‏

ابتداء مرض موت السلطان ولما كان يوم الجمعة رابع عشرينه حضر السلطان الملك الظاهر جقمق الصلاة بجامع القلعة على العادة وهو متوعك‏.‏

فلما انقضت الصلاة وخرج من الجامع غشي عليه فأرجف في القاهرة بموته وتكلم الناس بذلك‏.‏

فأصبح من الغد في يوم السبت خامس عشرينه وحضر الخدمة في الدهيشة من القلعة وحضر جميع أكابر الأمراء والخاصكية بغير كلفتاة وعلم السلطان على قصص كثيرة‏.‏

ومن غريب الاتفاق ما وقع له أنه لما خرج إلى الدهيشة ورأى الناس وقوفًا قال‏:‏ ‏"‏ سبحان الحي الذي لا يموت‏!‏ ‏"‏ فحسن ذلك ببال الناس كثيرًا عفا الله عنه‏.‏

ثم أصبح في يوم الأحد سادس عشرين ذي الحجة فركب من القلعة ونزل إلى بيت بنته زوجة الأمير أزبك من ططخ الساقي أحد أمراء العشرات ورأس نوبة غير أنه لم يطل الجلوس عندها وعاد إلى القلعة من وقته وكان سكن أزبك المذكور يومئذ في الدار الذي خلف حمام بشتك وهي الآن ملك شخص من أصاغر المماليك الأشرفية لا أعرفه إلا في هذه الدولة‏.‏

ثم في يوم الاثنين سابع عشرين ذي الحجة عمل السلطان الموكب بالحوش لقصاد جهان شاه بن قرا يوسف متملك تبريز وغيرها‏.‏

وكان قدوم القصاد المذكورين لإعلام السلطان بأن جهان شاه المذكور كسر عساكر بابور بن باي سنقر بن شاه رخ بن تيمورلنك وأنه استولى على عدة بلاد من ممالكه وأن عساكر جغتاي ضعف أمرهم لوقوع الوباء في خيولهم ومواشيهم‏.‏

ثم في يوم الأربعاء تاسع عشرينه ضرب السلطان بعض نواب الحكم الشافعية بيده عشرة عصي لأمر لا يستحق ذلك‏.‏

وفرغت سنة ست وخمسين بعد أن وقع بها فتن كثيرة ببلاد الشرق قتل فيها خلائق لا تدخل تحت حصر استوعبنا غالبها في ‏"‏ حوادث الدهور ‏"‏ كونه موضوعًا لتحرير الوقائع كما أن هذا الكتاب وظيفته الإطناب في تراجم ملوك مصر‏.‏

ومهما ذكرناه بعد ذلك من الوقائع يكون على سبيل الاستطراد وتكثير الفوائد لا غير‏.‏

واستهلت سنة سبع وخمسين وثمانمائة بيوم الجمعة والسلطان الملك الظاهر جقمق صاحب الترجمة متوعك غير أنه يتجلد ولا ينام على الفراش وأيضًا لم يكن على وجهه علامات مرض الموت إلا أنه غير صحيح البدن وكان له على ذلك أشهر كثيرة من أواخر سنة خمس وخمسين وثمانمائة - انتهى‏.‏

قلت‏:‏ ويحسن ببالي أن أذكر في أول‏.‏

هذه السنة جميع أسماء أرباب الوظائف بالديار المصرية وغيرها ليعلم بذلك فيما يأتي كيف تقلبات الدهر وتغيير الدول‏.‏

فأقول‏:‏ استهلت سنة سبع وخمسين وخليفة الوقت القائم بأمر الله حمزة والقاضي الشافعي شرف الدين يحيى المناوي والقاضي الحنفي سعد الدين سعد الديري والقاضي المالكي ولي الدين محمد السنباطي والقاضي الحنبلي بدر الدين محمد بن عبد المنعم البغدادي وأتابك العساكر إينال العلائي الناصري وأمير سلاح جرباش الكريمي الظاهري برقوق المعروف بقاشق وأمير مجلس تنم من عبد الرزاق المؤيدي والأمير آخور الكبير قاني باي الجاركسي ورأس نوبة النوب أسنبغا الناصري الطياري والدوادار الكبير دولات باي المحمودي المؤيدي وحاجب الحجاب خشقدم من ناصر الدين المؤيدي وباقي مقدمي الألوف أربعة‏:‏ أعظمهم المقام الفخري عثمان ابن السلطان ثم الأمير تنبك البردبكي الظاهري برقوق المعزل عن الحجوبية والأمير طوخ من تمراز الناصري والأمير جرباش المحمدي الناصري المعروف بكرد والجميع أحد عشر مقدمًا بأقل من النصف عما كان قديمًا‏.‏

وأرباب الوظائف من الطبلخانات والعشرات‏:‏ شاد الشراب خاناه يونس الأقبائي البواب أمير طبلخاناه والخازندار قراجا الظاهري جقمق أمير طبلخاناه والزردكاش لاجين الظاهري جقمق أمير عشرة ونائب القلعة يونس العلائي الناصري أمير عشرة والحاجب الثاني نوكار الناصري أمير عشرة ووظيفة أمير جاندار بطالة يليها بعض الأجناد السكات عن ذكره أجمل وأستادار الصحبة سنقر الظاهري أمير عشرة‏.‏

وهذه الوظائف كان قديمًا يليها مقدمو الألوف ويستدل على ذلك من خلعهم في الأعياد وغيرها - انتهى‏.‏

والأمير آخور الثاني يرشباي الإينالي المؤيدي أمير طبلخاناه ورأس نوبة ثاني جانبك القرماني الظاهري برقوق أمير طبلخاناه والدوادار الثاني تمربغا الظاهري جقمق أمير عشرة غير أن معه زيادات كثيرة والمهمندار بعض الأجناد ووالي القاهرة جانبك اليشبكني أمير عشرة والزمام والخازندار فيروز الطواشي الرومي النوروزي أمير طبلخاناه ومقدم المماليك مرجان العادلي المحمودي الحبشي أمير عشرة ونائبه عنبر خادم نور الدين الطنبذي‏.‏

ومباشرو الدولة‏:‏ كاتب السر القاضي محب الدين محمد بن الأشقر وناظر الجيش والخاص عظيم الدولة ومدبرها الجمالي يوسف ابن كاتب جكم والوزير الصاحب أمين الذين إبراهيم بن الهيصم والأستادار زين الدين يحيى الأشقر المعروف بابن كاتب حلوان وبقريب ابن أبي الفرج وهو على زي الكتاب ولهذا لم نذكره في الأمراء ومحتسب القاهرة يرعلي الخراساني العجمي الطويل‏.‏

ونواب البلاد الشامية‏:‏ نائب الشام جلبان الأمير آخور ونائب حلب قاني باي الحمزاوي ونائب طرابلس يشبك النوروزي ونائب حماة حاج إينال اليشبكي ونائب صفد بيغوت الأعرج المؤيدي ونائب غزة جانبك التاجي المؤيدي ونائب الكرك يشبك طاز المؤيدي ونائب الإسكندرية برسباي السيفي تنبك البجاسي أمير عشرة وهؤلاء هم أعيان النواب ومن يطلق في حق كل منهم ملك الأمراء‏.‏

ولا عبرة بولاية الوجه القبلي الآن وباقي نواب القلاع والبلاد الشامية فكثير - انتهى‏.‏

ثم في يوم الخميس سابع محرم سنة سبع وخمسين المذكورة أرجف في القاهرة بموت السلطان‏.‏

فلما كان يوم السبت تاسع المحرم خرج السلطان من قاعة الدهيشة ماشيًا على قدميه حتى جلس على مرتبة من غير أن يستعين بأحد في مشيه ولا استند في مجلسه بل جلس على مرتبته وعلم على عدة مناشير‏.‏

وأطلت أنا النظر في وجهه فلم أر عليه علامات تدل على موته بسرعة‏.‏

ثم قام وعاد إلى القاعة ولم يخرج بعدها إلى الدهيشة‏.‏

واستمر متمرضًا بالقاعة المذكورة والناس تخلط في الكلام بسبب مرضه والأقوال تختلف في أحوال المملكة‏.‏

على أن السلطان في جميع مرضه غير منحجب عن الناس وأرباب الدولة تتردد إليه بالقاعة المذكورة وهو يعلم في كل يوم في الغالب على المناشير والقصص وينفذ بعض الأمور إلا أن فرضه في تزايد وهو يتجلد‏.‏

إلى أن كان يوم الأربعاء العشرون من المحرم فوصل الأمير جانبك النوروزي من مكة المشرفة ودخل إلى السلطان وقبل له الأرض ثم قبل يده وخرج وخرجنا جميعًا من عنده وقد اشتد به المرض وظهر عليه أمارات رديئة تدل على موته بعد أيام غير أنه صحيح العقل والفهم والحركة‏.‏

ثم بعد خروجنا من عنده تكلم السلطان في هذا اليوم مع بعض خواصه في خلع نفسه من السلطنة وسلطنة ولده المقام الفخري عثمان في حياته فروجع في ذلك فلم يقبل ورسم بإحضار الخليفة والقضاة والأمراء من الغد بالدهيشة‏.‏

فلما كان الغد وهو يوم

 الخميس حادي عشرون محرم سنة سبع وخمسين وثمانمائة

حضر الخليفة والقضاة وجميع الأمراء وفي ظن الناس أنه يعهد لولده عثمان بالملك من بعده كما هي عادة الملوك‏.‏

فلما حضر الخليفة والقضاة عنده بعد صلاة الصبح خلع نفسه من السلطنة وقال للخليفة والقضاة‏:‏ الأمر لكم انظروا فيمن تسلطنوه أو معنى ذلك لعلمه أنهم لا يعدلون عن ولده عثمان فإنه كان أهلا للسلطنة بلا مدافعة‏.‏

وأراد أيضًا بهذا القول أنه قد خلع نفسه وأنه يموت غير سلطان وأنه أيضًا لا يتحمل بوزر ولاية ولده المذكور فكان مقصده جميلًا في القولين رحمه الله تعالى‏.‏

فلما سمع الخليفة كلام السلطان لم يعدل عن المقام الفخري عثمان لما كان اشتمل عليه عثمان المذكور من العلم والفضل وإدراكه سن الشبيبة وبايعه بالسلطنة وتسلطن في يوم الخميس المذكور حسبما نذكره إن شاء الله تعالى في أول ترجمته من هذا الكتاب‏.‏

واستمر الملك الظاهر مريضًا ملازمًا للفراش وابنه الملك المنصور يأخذ ويعطي في مملكته ويعزل ويولي والملك الظاهر في شغل بمرضه وما به من الألم في زيادة إلى أن مات في قاعة الدهيشة الجوانية بين المغرب والعشاء من ليلة الثلاثاء ثالث صفر من سنة سبع وخمسين وثمانمائة المقدم ذكرها‏.‏

وقرىء حوله القرآن العزيز إلى أن أصبح وجهز وغسل وكفن من غير عجلة ولا اضطراب حتى انتهى أمره وحمل على نعشه وأخرج به وأمام نعشه ولده السلطان الملك المنصور عثمان ماشيًا وجميع أعيان المملكة‏.‏

وساروا أمام نعشه بسكون ووقار إلى أن صلي عليه بمصلاة باب القلة من قلعة الجبل وصلى عليه الخليفة القائم بأمر الله أبو البقاء حمزة وخلفه السلطان والقضاة وجميع الأمراء والعساكر‏.‏

ثم حمل بعد انقضاء الصلاة عليه وانزل من القلعة حتى دفن بتربة أخيه الأمير جاركس القاسمي المصارع التي جددها مملوكه قاني باي الجاركسي بالقرب من دار الضيافة تجاه سور القلعة‏.‏

ولم يشهد ولده الملك المنصور دفنه وعاد إلى القلعة من المصلاة‏.‏

وشهد دفنه خلائق وقعد الناس في الطرقات لمشاهدة مشهده وكان مشهده عظيمًا إلى الغاية بخلاف جنائز الملوك السالفة ولعل هذا لم يقع لملك قبله كل ذلك لكونه سلطن ولده في حياته ثم مات بعد ذلك بأيام فلهذا كانت جنازته على هذه الصورة‏.‏

ومات الملك الظاهر وسنه نيف على ثمانين سنة تخمينًا ولم يخلف بالحواصل ولا الخزائن إلا نزرًا يسيرًا يستحى من ذكره بالنسبة لما تخلفه الملوك وكذلك في جميع تعلقات السلطنة من الخيول والجمال والسلاح والقماش كل ذلك من كثرة بذله وعطائه‏.‏

وكانت مدة ملكه من يوم تسلطن بعد خلع الملك العزيز يوسف في يوم الأربعاء تاسع عشر شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة إلى أن خلع نفسه بولده الملك المنصور عثمان في الثانية من نهار الخميس الحادي والعشرين من محرم سنه سبع وخمسين وثمانمائة أربع عشرة سنة وعشرة شهور ويومين وتوفي بعد خلعه من السلطنة باثني عشر يومًا‏.‏

ووقع له في سلطنته غرائب لم تقع لأحد قبله إلا نادرًا جدًا منها ركوبه وهو أتابك على الملك العزيز يوسف وقتاله له وانتصاره عليه ولا نعرف أحدًا قبله من الأمراء ركب على السلطان ووقف بالرملة والسلطان بقلعة الجبل وانتصر عليه غيره فإن قيل‏:‏ واقعة الناصري ومنطاش مع الملك الظاهر برقوق فليس ذاك مما نحن فيه من وجوه عديدة لا يحتاج إلى ذكرها‏.‏

وإن قيل‏:‏ نصرة منطاش وملكه لباب السلسلة فنقول‏:‏ كان ركوب منطاش على رفيقه يلبغا الناصري ومنها أنه سلم عليه بالسلطنة ثلاثة خلفاء من بني العباس ولم يقع ذلك لملك قبله من ملوك مصر‏.‏

ومنها أنه اجتمع له قضاة أربعة في عصر واحد لم يجتمع مثلهم لغيره من ملوك مصر وهم قاضي القضاة شهاب الدين بن حجر الشافعي حافظ المشرق والمغرب‏:‏ كان فردًا في معناه لا يقاربه في علم الحديث أحد في عصره وقاضي القضاة شيخ الإسلام سعد الدين سعد الديري الحنفي‏:‏ كان فقيه عصره شرقًا وغربًا لا يقاربه أحد في حفظ مذهبه واستحضاره مع مشاركته في علوم كثيرة والعلامة قاضي القضاة شمس الدين البساطي المالكي‏:‏ كلان إمام عصره في علمي المعقول والمنقول قد انتهت إليه الرئاسة في علوم كثيرة ومات ولم يخلف بعده مثله وقاضي القضاة شيخ الإسلام محب الدين أحمد الحنبلي البغدادي‏:‏ كان أيضًا إمام عصره وعالم زمانه انتهت إليه رئاسة مذهبه بلا مدافعة‏.‏

ومنها أنه أقام في ملك مصر هذه المدة الطويلة لم يتجرد فيها تجريدة واحدة إلى البلاد الشامية غير مرة واحدة في نوبة الجكمي في أوائل سلطنته وهذا أيضًا لم يقع لملك قبله‏.‏

ومنها أنه أذن للغرسي خليل ابن السلطان الملك الناصر فرج بالحج فقدم القاهره وحج وعاد مع عظم شوكته من مماليك أبيه وجده الملك الظاهر برقوق وهذا شيء لم يقع مثله في دولة من الدول‏.‏

ومنها ابنه المقام الناصري محمد رحمه الله تعالى‏:‏ من غزير علمه وكثرة فضائله فإننا لا نعلم أحدًا من ملوك الترك رزق ولدًا مثله بل ولا يقاربه ولا يشابهه مما كان اشتمل عليه من العلم والفضل والمعرفة التامة وحسن السمت وجودة التدبير ولا نعرف أحدًا من أولاد السلاطين من هو في هذا المقام قديمًا وحديثًا حتى ولو قلت‏:‏ ولا من بني أيوب ممن ملكوا مصر لكان يصدق قولي ومن كان من بني أيوب له فضيلة تامة غير الملك المعظم عيس ابن الملك الكامل والملك المؤيد إسماعيل صاحب حماه وهما كانا بالبلاد الشامية - انتهى‏.‏

وقد استوعبنا أحوال الملك الظاهر هذا من مبدأ أمره إلى آخره محررًا بالشهر واليوم في جميع ما وقع له من ولاية وعزل وغريبة وعجيبة في تاريخنا ‏"‏ حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور ‏"‏ فلينظر هناك‏.‏

وما ذكرناه هنا جميعه نوع من تكثير الفائدة لا القصة على جليتها بل نشير بذكرها إعلامًا لوقت واقعتها لا غير‏.‏

وكان الملك الظاهر سلطانًا دينًا خيرًا عفيفًا صالحًا فقيهًا شجاعًا مقدامًا عارفًا بأنواع الفروسية عفيفًا عن المنكرات والفروج لا نعلم أحدًا من ملوك مصر في الدولة الأيوبية ولا التركية على طريقته في ذلك‏.‏

لم يشهر عنه في صغره ولا في كبره أنه تعاطى مسكرًا ولا منكرًا حتى قيل إنه لم يكتشف حرامًا قط‏.‏

وأما حب الشباب فلعله كان لا يصدق أن أحدًا يقع في ذلك لبعده عن معرفة هذا الشأن‏.‏

وكان جلوسه في غالب أوقاته على طهارة كاملة‏.‏

وكان متقشفًا في ملبسه ومركبه إلى الغاية لم يلبس الأحمر من الألوان في عمره منذ علم بكراهيته‏.‏

ولم أره منذ تسلطن لبس كاملية بفرو وسمور وبمقلب سمور غير مرة واحدة وأما الركوب بالسرج الذهب والكنبوش الزركش فلم يفعله إلا يوم ركوبه بأبهة السلطنة لا غير‏.‏

وكان ما يلبسه أيام الصيف وما على فرسه من آلة السرج وغيره لا يساوي عشرة دنانير مصرية‏.‏

وكان معظمًا للشريعة محبًا للفقهاء وطلبة العلم وما وقع منه من الإخراق ببعضهم وحبسهم بحبس المقشرة فلا نقول‏:‏ كان ذلك بحق بل نقول‏:‏ الحاكم يجتهد ثم يقع منه الصواب والخطأ فإن كان ما فعله بحق فقد أصاب وإن كانت الأخرى فقد أخطأ وأعيب عليه ذلك‏.‏

الطويل ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها كفى المرء فخرًا أن تعد معايبه وكان معظمًا للسادة الأشراف وكان يقوم لمن دخل عليه من الفقهاء والفقراء كائنًا من كان‏.‏

وإذا قرأ عنده أحد فاتحة الكتاب نزل عن مدورته وجلس على الأرض إجلالًا لكلام الله تعالى‏.‏

وكان كريمًا جدًا يجود بالمال حتى نسب إلى السرف‏.‏

وكان ينعم بالعشرة آلاف دينار إلى ما دونها‏.‏

وكان ممن أنعم عليه بعشره آلاف دينار الأتابك قرقماس الشعباني وأما دون ذلك من الألف إلى المائة فدوامًا طول دهره لا يمل من ذلك حتى إنه أتلف في أيام سلطنته من الأموال ما لا يدخل تحت حصر كثرة ويكفيك أنه بلغت نفقاته على المماليك وصلات الأمراء والتراكمين وغيرهم وفي أثمان مماليك اشتراهم وتجاريد جردها في مدة أولها موت الملك الأشرف برسباي وآخرها سلخ سنة أربع وأربعين وثمانمائة وذلك مدة ثلاث سنين مبلغ ثلاثة آلاف ألف دينار ذهبًا مصريًا وذلك خلاف الخلع والخيول والقماش والسلاح والغلال وخلاف جوامك المماليك ورواتبهم المعتادة‏.‏

وكان لا يلبس إلا القصير من الثياب ونهى الأمراء وأكابر الدولة وأصاغرها عن لبس الثوب الطويل وأمعن في ذلك حتى إنه بهدل بسبب ذلك جماعة من أعيان الدولة وعاقب جماعة من الأصاغر وقص أثواب آخرين في الملأ من الناس‏.‏

وكان أيضًا يوبخ من لا يحف شاربه من الأتراك وغيرهم‏.‏

وفي الجملة أنه كان آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر مع سرعة استحالة وحدة مزاج وبطش‏.‏

وكان غالب ما يقع منه من الإخراق بالناس يكون بحسب الواسطة من حواشيه فإنه كان مهما ذكروه له قبله منهم وأخذه على طريق الصدق والنصيحة لسلامة باطنه وأيضًا على قاعدة الأتراك من كون الحق عندهم لمن سبق‏.‏

وبالجملة فكانت محاسنه أكثر من مساوئه وهو أصلح من ولي ملك مصر من طائفته في أمر الدين والتقوى فإنه كان قمع المفسدين والجبارين من كل طائفة وكسدت في أيامه أحوال أرباب الملاهي والمغاني وتصولح غالب أمرائه وجنده وبقي أكثرهم يصوم الأيام في الشهر ويعف عن المنكرات كل ذلك مراعاة لخاطره وخوفًا من بطشه‏.‏

وهذا كله بخلاف ما كان عليه كثير من الملوك السالفة فإنه كان غالبهم يقع فيما ينهى عنه فكيف يصير للنهي عنه بعد ذلك محل ومن عظم ذلك قال بعض الفضلاء الظرفاء‏:‏ نابت هذه الدولة عن الموت في هدم اللذات والأيام الطيبة ‏"‏‏.‏

ولم يبق في دولته ممن يتعاطى المسكرات إلا القليل وصار الذي يفعل ذلك يتعاطاه في خفية ويرجفه في تلك الحالة صفير الصافر‏.‏

وكانت صفته قصيرًا للسمن أقرب أبيض اللون مشربًا بحمرة صبيح الوجه منور الشيبة فصيحًا باللغة التركية وباللغة العربية لا بأس به بالنسبة لأبناء جنسه وكان له اشتغال في العلم ويستحضر مسائل جيدة ويبحث مع العلماء والفقهاء ويلازم مشايخ القراءات ويقرأ عليهم دوامًا‏.‏

وكان يقتني الكتب النفيسة ويعطي فيها الأثمان الزائدة عن ثمن المثل‏.‏

وكان يحب مجالسة الفقهاء ويكره اللهو والطرب ينفر منهما بطبعه‏.‏

وكان يتجنب المزاح وأهله ولا يميل للتجمل في الملبس ويكره من يفعله في الباطن‏.‏

وكانت أيامه آمنة من عدم الفتن والتجاريد ولشدة حرمته‏.‏

وخلف من الأولاد الذكور واحدًا وهو ولده الملك المنصور عثمان وأمه أم ولد رومية وابنتين‏:‏ الكبرى أمها خوند مغل بنت القاضي ناصر الدين بن البارزي وزوجها السلطان لمملوكه أزبك من ططخ الساقي والصغرى بكر وأمها أم ولد جاركسية ماتت قديمًا‏.‏

ذكر من عاصره من الخلفاء‏:‏ أولهم أمير المؤمنين المعتضد بالله أبو الفتح داؤد إلى أن توفي يوم الأحد رابع شهر ربيع الأول سنة خمس وأربعين حسبما يأتي ذكره في الوفيات هو وغيره والمستكفي بالله سليمان إلى أن مات في يوم الجمعة ثاني محرم سنة خمس وخمسين والقائم بأمر الله حمزة والثلاثة إخوة‏.‏

قضاته بالديار المصرية